وثيقة:ما فعلته السيول في أهالي «زرايب» 15 مايو

من ق.م.ع
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

مقالة
العنوان ما فعلته السيول في أهالي «زرايب» 15 مايو
تأليف بسمه مصطفي
تحرير غير معلوم
المصدر مدى مصر
اللغة العربية
تاريخ النشر 2020-03-14
تاريخ الاسترجاع 2020-03-15
مسار الاسترجاع https://mada22.appspot.com/madamasr.com/ar/2020/03/14/feature/سياسة/ما-فعلته-السيول-في-أهالي-زرايب-15-مايو/

داخل كنيسة «السيدة العذراء والقديس اثناسيوس الرسول» بمدينة 15 مايو جنوبي القاهرة، تجلس صباح جميل، وهي سيدة أربعينية تتبدى مشاعر الحزن على وجهها، بينما تحتضن أولادها الثلاثة.

«وقت السيل خدت ولدي، وبناتي الاثنين ورمحت على الجبل، بنتي ضافرها اتخلع بسبب إننا كنا حافيين، طلعنا بالهدوم اللي علينا، وعقبال ما وصلنا الجبل.. كنّا زي الكتاكيت المبلولة»، تحكي صباح لـ «مدى مصر». وتصف مشهد السيول، بأنه بحر ابتلع كل شيء أمامه؛ خسرت هي وأسرتها منزلهم وكل ما يملكون. «البيوت عِدمت وأهلنا ماتوا، وغيرهم مش لاقيين جثثهم لغاية دلوقتي، مطلعناش غير بعيالنا، ولما وصلنا الجبل، فضلنا تحت المطرة لغاية الساعة 10 بليل» ثم جاء مَن ينقذوهم وتوجهوا بهم إلى الكنيسة.

خلال رحلة الإنقاذ في طريقها إلى الكنيسة المفتوحة للناجين، اعتبرت صباح زوجها، عماد ثابت، مفقودًا. لكنها وجدته داخل الكنيسة. بينما كانت تفترض صباح أن عمادًا قد فُقد، كان ينقذ جيرانه مستخدمًا التروسيكل لنقل العالقين بالبيوت المنكوبة إلى الجبل. ويحكي لـ «مدى مصر»: «نقلة والتانية والتروسيكل اللي حليتي باظ، عطل، اضطريت اسيبه والميّة جرفته».

فتحت الكنيسة أبوابها للناجين من السيول خلال اليومين الماضيين، وذلك بعد تأثر المنطقة بالكامل ومنازلها كافة بحسب ما يقول القس ارميا ناير لـ«مدى مصر»: «الوضع هنا مأساوي للغاية، من الصعب حصر عدد الأُسر التي نستقبلها.. كل خمس دقائق نستقبل ناجين. هناك عائلات ما زالت تبحث عن ذويها، وآخرين لقوا حتفهم»، مؤكدًا أن الكنيسة لا تفرق بين مسلم ومسيحي، بل فتحت أبوابها للجميع، مشيرًا إلى أن بعدما استوعب مبنى الخدمات أشخاص على قدر طاقته بدأوا في البحث عن أماكن بديلة وشرعوا في تجهيزها لاستقبال أي نجاة متوقعين.


على باب الكنيسة «خلية نحل» قوامها مَن تطواعوا لإعانة الضحايا على تخطي آثار الصدمة التي مروا بها. شباب يحملون بطاطين، وآخرون يعدون وجبات غذائية في منازلهم ويأتون بها إلى باب الكنيسة وهناك مَن تواجد من أجل الدعم النفسي للناجين.

ضمن «خلية النحل» هذه، نيفين وزوجها تامر، ولديهما أربعة أطفال، لكنهم تركوهم بالمنزل وتوجها للكنيسة من أجل تقديم الدعم؛ تستقبل نيفين الأطفال وتغيّر ملابسهم المبتلة، وتحاول طمأنتهم، أما زوجها فيساعد في «تسكين» العائلات ومعرفة احتياجاتهم وإعداد قوائم حصر بالأسماء.

على باب الكنيسة أيضًا، يقف شاب يحمل طفلة تُدعى مريم (عشر سنوات)، تبدو في حالة من الذعر، كما أنها صامتة، تنظر حولها بحثًا عن أسرتها، ملابسها مبتلة بالكامل، وشعرها تغطيه آثار الطين، بينما يظهر «حرق» في إحدى ساقيها. حينما حملت نيفين مريمًا إلى غرف الناجين، بعد تقديم الدعم الطبي وتبديل ملابسها بأخرى نظيفة، اخترقت آذان المتواجدين بالقاعة عبارة «انتي لسه عايشة يا مريم؟!»، سُمعت العبارة معبّرة عن فرحة لا تخلو من الصدمة. ثم تبيّن أن أسرتها بالكامل كانت من الناجين.

تحكي مريم لـ «مدى مصر» أنها وقت السيل جرت باتجاه الجبل، وظلت مختبئة به حتى عثر شخص عليها وآتى بها إلى الكنيسة.

بسبب الأمطار، يستمر انقطاع الكهرباء في المبنى المخصص للناجين، فيحل الظلام بالغرف، ويتبادلون الحديث على ضوء كشافات الهواتف المحمولة، عن مشاهد الموت التي عايشوها، ويبدون في ثبات بينما يحكون هذه المآسي والأهوال.

على طرف سرير صغير، تجلس منال جميل، تسند رأسها على مسنده مغمضة عينيها، تقول بصوت خانق: «ميّة السيل خدت كل اللي في وشها، خسرنا كل حاجة».

بحسب القس مكاريوس فايز، فإن مبنى الخدمات بالكنيسة به 50 سريرًا، هو ممتلئ بالفعل، موضحًا أن الناجين حالتهم النفسية غير مستقرة، وهم تحت صدمة قوية ويحتاجون لكل أنواع الدعم.


انتشل عماد خمسة جثامين لجيرانه، طفلة تبلغ من العمر عشر سنوات وشاب وثلاث سيدات مسلمات، مشككًا في صحة العدد الرسمي المُعلن للضحايا، ويقول: «أنا جريت وقت السيل، قدرت انقذ اللي أقدر عليه، وقدرت انتشل جثامين اللي السيل جابهم في طريقي، لكن اللي ماتوا كتير، إحنا 700 أسرة وعدد اللي ظهروا لغاية دلوقتي قليل، كتير ماتوا والميّة جرفتهم، وجثثهم لسه مظهرتش».

يصف عماد مشهد انتشال الجثامين بـ«المُهين»، ويضيف: «كانوا عايمين على وش الميه… كنّا بنشدهم من شعرهم أو من رجليهم، سرعة المياة خدت ملابسهم الداخلية، كنت بصرخ بأعلى صوت وأنده على اللي حواليا واقولهم ادوني بطاطين أستر بيها الناس».

منطقة «الزرايب» في مدينة 15 مايو هي إحدى المناطق الست للزبالين بالقاهرة الكبرى، وتقع خلف مدافن المدينة وتضم 1000 عضو بنقابة «الزبالين»، بما يُقارب 700 أسرة يقومون بجمع القمامة وخدمة منطقة التبين وحلوان وطرة ومايو وذلك بحسب عماد الذي يقيم بالمنطقة منذ نحو الـ17 عاما.

أُعلنت الأرقام الرسمية لضحايا السيل الذي ضرب الـ«زرايب» بأنهم 12 ضحية و22 مفقودًا. وظهر اليوم السبت، أُقيمت صلاتا جنازة، في التوقيت نفسه، واحدة من داخل كنيسة «مارمرقس والأنبا شنودة» والثانية في أحد مساجد المدينة.


يسيطر صمت من هيبة الموقف على محيط الكنيسة، حتى البكاء يحدث في صمت، حتى تنكسر تلك الحالة وتتعالى الصرخات اثناء خروج الجثامين من باب الكنيسة بعد الصلاة عليهم، متجه إلى مثواها الأخير. شهد محيط الكنيسة تواجد أمني مكثف، واُشترط دخول الصحفيين للجنازة بأن يكونوا من أعضاء نقابة «الصحفيين».

يسيطر غضب على منال نتيجة ما تعرّض له سُكّان «الزرايب» من إهمال وتهميش على مدار سنوات، فتقول: «دلوقتي إحنا الشغلانة بتاعتنا دي مش لخدمة الشعب والوطن!؟ إحنا لو مش لفينا نلم الزبالات بتاعت الناس مش هتعفن في مكانها؟ إحنا بنجيب المكن بتاعنا بالقسط وبنشيل همها ومرارها، وبتتاخد مننا ساعات وبندفع غرامات بالآلاف عشان نعرف ناخدها تاني، إحنا مش بنلم أي تحصيل منها، إحنا بنتعرض للأمراض كلها، بنفرز الزبالة». وعن مكان إقامة منال وبقية أهالي الزبالين، تضيف: «إحنا معناش فلوس عشان نقدر نأجر شقق في مكان تاني، ومجبورين على الشغلانة عشان نقعد في المكان اللي إحنا فيه. بنقول لنفسنا اهو مكان وملمومين فيه، واهو حاجتنا كلها راحت دلوقتي».

بينما يطالب عماد وزوجته صباح بالتعويض، ويناشدا الرئيس عبدالفتاح السيسي بالنظر إلى المضارين من السيول بـ«عين الرحمة»، ويقول عماد: «إحنا شغالين في جمع القمامة، والمكن بتاعنا اللي بنأكل منه عيش كله ضاع، من حقنا سكن آمن، زي ما الناس عايشة، لو عندنا بيوت آمنة إيه هيخلينا نعيش في مكان عيالنا تموت فيه قدام عنينا ومنقدرش نحوشها، إحنا عملنا عشش وقعدنا عشان مالناش مكان تاني، هما لو ملكونا الأراضي من زمان، كنا بنينا بيوتنا حتى لو هنشحت عشان نبني لعيالنا، كل الناس هنا اللي ليها تلت ولا أربع سنين بتحوش في تمن المكن اللي بتشتغل بيه عشان نسند الطفل اللي طالع للدنيا القاسية دي في الصحة ولا التعليم، اهو كله دلوقتي ضاع، إحنا بشر خلقنا ربنا مش أقل من بقية الناس، بصوا لينا بعين الرحمة».

ثم توجه صباح حديثها للسيسي: «إحنا في انتخابات بنروح نديك صوتنا، ولما قالوا ننزل التحرير تأييدًا ليك نزلنا، بس ادينا حقنا، زي ما اديناك صوتنا». وتتابع: «إحنا بسطاء، بس لينا حقوق في المجتمع، بلاش إحنا، بص لعيالنا، إحنا لا معلمين عيل من عيالنا زي الناس، عيالنا بتوصل لسنة خمسة ابتدائي وبيرفضوا يروحوا المدرسة تاني، عشان بيقولوا لهم انزلوا اكنسوا الحوش انتوا ولاد الزبالين».

تستمر وعود تطوير الـ«زرايب» دون تنفيذ لسنوات، يقول عماد: «الحكومة بقالها سنين بتوعدنا بتطوير المنطقة ومافيش خطوة لغاية دلوقتي، من سنتين عملوا مخر سيل بالمنطقة اتكلف ملايين الجنيهات، طيب مش كنا إحنا أولى بشقق آمنة لينا ولعيالنا؟! إحنا قاعدين في المنطقة من قبل إنشاء المخر، بيعملوا مخر سيل وسابونا إحنا وعيالنا من غير الحد الأدنى من المعيشة الآدمية».

قابلت هيئة المجتمعات العمرانية أهالي المنطقة أوائل العام الماضي، واُتفق على تطويرها لتصبح سكنية، مع تخصيص منطقة فى التوسعات الجنوبية لمدينة 15 مايو، كي تكون منطقة صناعية قائمة على نشاط جمع القمامة، وعمليات الفرز المرتبطة بها، بحسب عماد الذي يوضح: «في النهاية كله كلام بس».

طبقًا للقرار الجمهوري رقم 305 لسنة 2008 أُنشئ صندوق تطوير المناطق العشوائية ومهتمه الأساسية حصر وتصنيف المناطق العشوائية وإعادة تأهيلها ورفع كفاءة المنازل بها وإدخال الخدمات لها، قمنا بإجراء بحث على الموقع الخاص بالصندوق عن زرايب 15 مايو ولكننا لم نجد أي نتائج.

الدكتور أحمد درويش نائب وزير الإسكان للتطوير الحضري والعشوائيات السابق، يقول لـ «مدى مصر»: «كان هناك خطة لتطوير منطقة «زرايب 15 مايو» عندما كنتُ في الوزارة، وكان من ضمنها إنشاء مخر سيل يكون في آخره بحيرة لجمع مياه السيول بها، وهذه كانت المرحلة الأولى، وكان ضمن خطة التطوير أيضًا بناء بيوت آمنة لهم في تلك المنطقة تمكنهم من استكمال عملهم بجمع القمامة». وبسؤاله عن عدم استكمال خطة تطوير المنطقة حتى الآن، رد بإنه لا يعلم.

بدأ الحديث عن تطوير المنطقة منذ 2016 بإعلان خطة تطويرية تكلفتها 30 مليون جنيه التي أعلن درويش عنها.

تقول منال: «الناس المهمة اللي ليها ضهر لو عنده عيل تعب بيجيب له دكتور يقعد جنبه، لكن إحنا اللي بنفرز الزبالة وبننام جنبها ومش عاجب، دا إحنا بنروح المستشفى، بيقولوا لنا انتوا مش تبعنا. برشام السكر خلصان مني، رُحت الوحدة الصحية في مجاورة 25 وطلبت منهم يعملوا لي ملف، قالوا لي منقدرش نعملك ملف عشان مالكيش عنوان.. عشان في منطقة عشوائية، بيطلبوا منّا عنوان شقة أو بيت معروف، لكن لما نقول لهم إحنا عايشين في الزرايب، بيقولوا لنا: ده أنتوا زبالين».

إعادة تدوير النفايات هي عملية استخدام وإعادة معالجة المخلفات سواء المنزلية، أو الصناعية، أو الزراعية، وذلك بهدف تقليل أثرها واستخدامها في الصناعات والمنتجات المختلفة وهي تبدأ بتجميع القمامة التي يمكن تدويرها، ومن ثم فرزها بناءً على نوعها. هذه العملية تعتبر منال أنها توفر على الدولة «ملايين الفلوس اللي تستورد بيها مواد خام»، لهذا تضيف منال مطالبة بأن «من حقنا إننا نتعامل بشكل آدمي». تصف منال عملهم بجمع القمامة بأنه «خلية نحل» تعمل بلا توقف، وتبدأ الرحلة في الصباح الباكر بمرحلة الجمع، ثم تنتقل لأخرى هي الفرز، ثم آخر المراحل وهي إعادة التدوير: «من أصغر حد لأكبر حد إيده شغالة معانا، لا نستطيع التوقف حتى لا تتراكم علينا القمامة».

شحاتة المقدس، نقيب الزبالين، يقول لـ«مدى مصر»: «جامعو القمامة يرفعون 18 ألف طن زبالة في اليوم الواحد، توفّر على الدولة ملايين الدولارات لاستيراد المواد الصلبة من الخارج، مؤكدًا على أحقية الأهالي في التعويض وبيئة آمنة يعيشون بها»، لافتًا إلى أن جهات حكومية مثل وزراتي التضامن والتنمية المحلية توجها للمنطقة وقاموا بعمل حصر للخسائر لصرف تعويضات للمتضررين وأكدوا على البدء في إعادة «تطويرها».