وثيقة:الأسمرات: إسكان الدولة "النموذجي" للمواطن "العشوائي"
العنوان | الأسمرات: إسكان الدولة "النموذجي" للمواطن "العشوائي" |
تأليف | مصطفى محيي |
تحرير | غير معلوم |
المصدر | مدى مصر |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | 2017-12-16 |
تاريخ الاسترجاع | 2020-02-23 |
مسار الاسترجاع | https://madamasr.com/ar/2017/12/16/feature/سياسة/الأسمرات-إسكان-الدولة-النموذجي-ل/ |
لا تظهر ملامح الحياة فور دخولك مدينة «الأسمرات»، تحتاج إلى قطع قرابة كيلومترين قبل أن تلاحظ آثارها.
يقترب أتوبيس النقل العام من البوابة الرئيسية بشارع 9 في المُقطّم التي يقف أمامها ضابط شرطة، وفردا أمن. يعبر الأتوبيس بسلاسة من البوابة التي تُرفع وتُغلق يدويًا، بينما يُسأل راكبو السيارات الخاصة والتاكسيات عن وجهتهم داخل الأسمرات، وربما يُطلب من السائق أن يفتح حقيبة السيارة لتفتيشها قبل أن يُسمح له بالدخول.
بعد عبور البوابة، وبطول الجانب الأيسر من الشارع الرئيسي المؤدي ل «الأسمرات»، تتراص العمارات المتماثلة في الطول والشكل. وفي منتصف كل منها يمكن رؤية شعار «تحيا مصر» الشهير بارزًا وملونًا. تحمل المدينة، التي يُشار إليها إعلاميًا ب «الأسمرات» فقط، اسم «مدينة تحيا مصر»؛ الشعار الذي بدأ مع الحملة الانتخابية للرئيس عبد الفتاح السيسي، ثم أصبح شعارًا رسميًا يظهر في المشاريع والمؤتمرات المختلفة.
طوال الشارع الرئيسي يندر أن تشعر بوجود حياة في المكان، إلى أن تقترب من نهاية الطريق الذي ينحرف يسارًا باتجاه المنطقة المأهولة بالسكان من المدينة. قبل تلك الانحناءة، تظهر بوابة أخرى على اليمين، مخصصة للمارة، تصل بين «الأسمرات» و«مساكن الزلزال» المجاورة (التي بُنيت كمساكن بديلة لمن تهدمت بيوتهم في زلزال 1992) حيث يجد كثير من سكان «الأسمرات» احتياجاتهم من الخضروات والفاكهة واللحوم وغيرها من احتياجات العيش.
بعد انعطافه يسارًا، يبدأ الأتوبيس في التوقف أمام ال«بلوكات» السكنية المختلفة، التي تحمل أسماء ليست بالضرورة ذات دلالة لساكنيها؛ مثل الفردوس والياسمين والجوهرة. في الشارع العريض بينها، وفي الممرات الداخلية تظهر بعض مظاهر الحياة، لكنها تظل مُختلفة عن تلك التي عاشها ساكنو الأسمرات في المناطق التي أتوا منها.
الحياة بره في الشارع
في يونيو من العام الماضي، افتتح الرئيس عبد الفتاح السيسي المرحلتَين الأولى والثانية من مشروع إسكان «تحيا مصر»، وتضم المرحلتان قرابة 11 ألف وحدة سكنية، من المفترض أن تزيد إلى أكثر من 18 ألف وحدة سكنية بعد انتهاء المرحلة الثالثة بنهاية العام الجاري. يُموّل المشروع عن طريق صندوق «تحيا مصر»، وتجري أعمال الإنشاءات والتجهيزات بالتعاون بين الصندوق ومحافظة القاهرة والهيئة الهندسية للقوات المُسلحة. ويستهدف المشروع نقل سُكّان المناطق الخطرة وغير المُخططة بالقاهرة الكبرى إلى «الأسمرات».
منذ افتتاح المشروع، انتقلت نحو 8000 أسرة من مناطق: مثلث ماسبيرو، ومنشأة ناصر، والدويقة، وعزبة خير الله، واسطبل عنتر إلى «الأسمرات»، وتسلم المنتقلون وحدات سكنية مفروشة.
باستثناء القادمين من مثلث ماسبيرو، كانت الأُسر المنقولة تسكن فيما يُسمى ب«المناطق الخطرة»، والتي جرى تحديدها بواسطة لجنة فنّية شكلتها محافظة القاهرة عقب انهيار صخرة الدويقة سنة 2007.
بينما بدأ نقل مئات الأُسر من مثلث ماسبيرو كجزء من مشروع «تطوير المثلث» الذي يُشرف عليه صندوق تطوير العشوائيات بالتعاون مع محافظة القاهرة. وزّع صندوق تطوير العشوائيات في بداية العام الجاري استمارات على أهالي مثلث ماسبيرو ليختاروا من بين خمسة بدائل، ثلاثة منها تسمح بالبقاء في المثلث مع دفع قيمة مالية شهرية لاستئجار أو تملك وحدة سكنية في المثلث بعد تطويره. بينما الاختياران الآخران هما: تلقي تعويض مادي وترك المثلث أو الانتقال إلى «الأسمرات». اختار نحو 3500 أسرة، من أصل 4500 أسرة، ترك المثلث وقبِل معظمهم بالتعويض المادي وبعضهم بالانتقال إلى «الأسمرات».
تُوقّع أُسر «المناطق الخطرة» على عقود حق انتفاع للوحدات التي ينتقلون إليها في «الأسمرات»، بينما تُوقّع عائلات مثلث ماسبيرو على عقد تمليك شخصي، ويدفع الجميع 300 جنيه شهريًا مقابل الوحدة الواحدة.
في المناطق التي انتقلت منها الأُسر، تُخلق الحياة في الشارع مع حركة المارة والبضائع والمعاملات المختلفة بين الأهالي. يظل ضجيج الشارع وازدحامه هو الطابع المميز لتلك المناطق. تبدو حياة الشارع في «الأسمرات» مختلفة. فالطُرق المتسعة بين البلوكات السكنية لا تظهر فيها معالم هذه الحياة؛ لا محلات مفتوحة، ولا عامل ينقل بضائع من مكان إلى آخر، ولا مقهى يجلس عليه بعض من أرباب المعاشات أو الصنايعية في انتظار زبائنهم، ولا ورشة يدق عمالها صاج أحد «التكاتك».
يبدو الشارع المتسع غير معد للحياة التي اعتادها السُكّان هنا، حتى أن المشي نهارًا يظهر كنشاط غريب، وغير ملائم، خاصة في فصل الصيف. فالشارع شديد الاتساع بلا شجرة واحدة، والمسافات بين العمارات تُبقي المارة في الشمس دائمًا دون ظل. تنعكس الصورة في الشتاء؛ مع بداية الدراسة تظهر الحركة نهارًا بينما تختفي ليلًا، مع انخفاض درجات الحرارة.
لا شيء هناك يستحق الحركة تجاهه من الأصل، باستثناء المدارس خلال العام الدراسي. يبقى الاتجاه المنطقي الوحيد لأي حركة هو الاتجاه نحو الخارج، تجاه الأماكن الأخرى التي يمكن العثور فيها على أي من مظاهر الحياة التي اعتادها سُكّان «الأسمرات» في حيواتهم السابقة.
تقول زينب، سيدة أربعينية انتقلت حديثًا إلى «الأسمرات» ضمن المنتقلين من أهالي مثلث ماسبيرو: «لما تحب تجيب حاجة، لازم تنزل السوق القديم في المقطم، هنا مفيش محلات، والموجود بيقفل الساعة 5 بالكتير».
«الموجود» الذي تشير إليه زينب هي بعض منافذ بيع السلع الاستهلاكية المملوكة للقوات المسلحة ووزارة الداخلية، بالإضافة إلى أحد المجمعات الاستهلاكية التابعة لشركة الأهرام. وتتركز منافذ البيع داخل المدينة بالقرب من مجمع المدارس، الذي يبعد مسافة ليست هينة عن الكثير من «البلوكات» السكنية. تُقدم المنافذ سلعًا رئيسية لحاجات الطبخ، بالإضافة إلى اللحوم والأسماك المجمدة، التي لا تُفضلها زينب كثيرًا. ليبقى اعتمادها على الأسواق القديمة القريبة منها سواء في «مساكن الزلزال» أو منطقة «صبحي حسين» للحصول على الخضار والفاكهة واللحوم الطازجة غير المتوفرة داخل «الأسمرات».
تضم المرحلتان الأولى والثانية من «الأسمرات» نحو 140 محل تجاري، موزعين على «البلوكات» السكنية المختلفة وجميعهم لا تزال مغلقة. وفقًا لما قاله موظفو الحي لسكان «الأسمرات»، فإن المحلات سيتم عرضها للبيع لاحقًا بالمزاد العلني، مما قد يجعل السكان غير قادرين على المنافسة للحصول عليها بسبب دخولهم المحدودة.
انتقلت زينب إلى «الأسمرات» مع والدتها وشقيقها الأكبر، واستلموا وحدتَين سكنيتَين، غير أنهم لم يحصلوا على محل تجاري بدلًا من ذلك الذي يعيشون على ربحه في مثلث ماسبيرو. وما زالت زينب تتردد بكثافة على المثلث للمساعدة في إدارة المحل.
الأمر نفسه تكرر مع إبراهيم الذي يعمل ميكانيكيًا بدون محل ثابت داخل المدينة. بعد صدور قرار بإزالة منزله في منشأة ناصر، انتقل إبراهيم سنة 2014 إلى مساكن عثمان بمدينة 6 أكتوبر. غير أن الحياة في مساكن عثمان لم تكن سهلة بالنسبة لمعظم ساكنيها بسبب بُعدها عن كل منافع الحياة. فطلب إبراهيم، ضمن آخرين، الانتقال إلى «الأسمرات» لقربها النسبي من الدويقة ومنشأة ناصر (نحو نصف ساعة بالمواصلات العامة). وحصل بالفعل على وحدة سكنية هناك في 2016، لكنه لا يمتلك مكانًا لممارسة عمله.
يجلس إبراهيم مع عدّته على الرصيف المقابل للعمارة التي يسكن بها، يُصلح دراجة بخارية تخص سُكّان المدينة. تضاءل سوق العمل كثيرًا بالنسبة له بعد الانتقال من منشأة ناصر التي يعتمد الانتقال داخلها على «التكاتك» والسيارات «الفان» الصغيرة، المُسماة بـ «التُمناية»، وهي المركبات التي كان يعتمد في عيشه على إصلاحها، بينما لا يُسمح في الانتقال الداخلي بـ «الأسمرات» سوى بأتوبيسات المحافظة التي تنقل السُكّان إلى خارج أسوار المدينة، أو أتوبيسات النقل العام التي تذهب بهم إلى نقاط أبعد؛ مثل منشأة ناصر أو ميدان عبد المنعم رياض.
لا يجد الكثير من الحرفيين وأصحاب المهن الحرة ما يفعلونه داخل المدينة التي نُقلوا إليها، ولذلك يستمر معظمهم في التردد يوميًا على مناطق أبعد للعمل بها. يعمل الشيخ سيد مكوجيًا في حي إمبابة. كان يسكن في الدويقة قبل نقله إلى «الأسمرات»، بعد صدور قرار إزالة لمنزله. يضطر سيد إلى النزول إلى إمبابة لممارسة عمله، مما يزيد من عبء مصاريف المواصلات اليومية.
حاول آخرون من سكان «الأسمرات» خلق حلول بديلة تغنيهم عن الانتقال اليومي إلى مناطق بعيدة للعمل. اشترى عيد بعض البضائع الخفيفة ووضعها داخل شقته، التي انتقل إليها، في شهر رمضان الماضي، بعدما صدر قرار إزالة لمنزله في الدويقة. يسكن عيد في الدور الأرضي مما يتيح له التواصل مع الزبائن عبر بلكونة منزله.
كان عيد قد أُحيل إلى التقاعد من وظيفته الحكومية العام الماضي، بمكافأة نهاية خدمة لم تتجاوز 12 ألف جنيه ومعاش شهري 900 جنيه. وكان يعمل في السابق، بجانب وظيفته الحكومية، في أحد المقاهي، إلا أنه لم يعد قادرًا على الاستمرار في عمله الإضافي بعد انتقاله إلى «الأسمرات»، مما جعله يلجأ إلى بيع البضائع عبر «بلكونة» منزله.
في أحد أيام شهر أغسطس الماضي، فوجئ عيد برئيس الحي بصحبة عدد من الموظفين يداهمون منزله لمصادرة البضائع وتعنيفه وتهديده بسحب الوحدة السكنية منه في حالة الرجوع إلى بيع البضائع مرة أخرى داخل شقته. في اليوم التالي اشترى عيد بضائع جديدة وما زال يبيعها عبر «البلكونة».
تحكي الحاجة نجاة، التي تقوم أيضًا ببيع بضائع خفيفة عبر البلكونة، أن أحد سكان المدينة بدأ في بيع الفول والبليلة داخل «الأسمرات» على عربة متنقلة، إلا أن موظفي الحي قاموا بمصادرة العربة والتخلص من البضاعة بسكبها على الرمال.
الإسكان النموذجي
ترسم الوقائع السابقة خيطًا من محاولات فرض الدولة تنظيمًا «نموذجيًا» أو صورة مُعدّة سلفًا لما يجب أن تكون عليه مساكن «تحيا مصر». لا يتعلق ذلك التنظيم فقط بالتخطيط العمراني والهندسي للمدينة ومنازلها، بل بما يجب أن يكون عليه سلوك قاطنيها. وفق ذلك المنطق، لا يبدو مُستغربًا رفض أي من الممارسات التي قد تغيّر من الوظيفة المُحددة سلفًا للأماكن المختلفة داخل المدينة. فلا يجب للمنزل أن يتحول إلى مكان للبيع والشراء (وهو ما اعتاده الأهالي في حيواتهم السابقة)، ولا يجب للبيع أن يتمّ في الشارع عبر عربة فول، بل في الأماكن المخصصة لذلك، ولا يجب للانتقالات الداخلية أن تتمّ عن طريق «تكاتك» أو عربات «فان» صغيرة، بل عن طريق أتوبيسات المُحافظة المُخصصة لذلك؛ بغض النظر عن أن منع كل هذه الممارسات قد يعني وقف الحياة كما اعتادها السكان في الأماكن التي أتوا منها، ومنع تطور حياة جديدة في «الأسمرات»، طالما لم تسمح أو تخضع إدارة المدينة لمواءمات جديدة مع السكان.
تفرض الدولة كذلك درجة ما من الرقابة على مداخل المدينة. فيحكي سكان «الأسمرات»، الذين تحدث معهم «مدى مصر»، أن إجراءات الدخول كانت مشددة فيما سبق.
وقت افتتاح المشروع، في يونيو من العام الماضي، كان يُطلب من زائري المدينة تحديد اسم الشخص المطلوب زيارته، وربما يُطلب من ذلك الشخص الحضور واستقبال ضيفه على البوابة الرئيسية. مع الوقت، وزيادة عدد الأُسر التي انتقلت إلى المدينة خلال العام الماضي، أصبحت إجراءات الدخول أكثر رمزية، مجرد سؤال عابر لا يهتم أحد بإجابته. وفي أوقات النهار، تُترك البوابة مفتوحة دون سؤال عابريها عن وجهتهم، حسبما قال السُكّان.
لا تمضي محاولات التنظيم دون توترات أو محاولات للالتفاف والمفاوضة بين سكان «الأسمرات» وإدارة الحي كما جاء في القصص السابقة. غير أن بعض الجوانب في مدينة «تحيا مصر» لا تسمح بالالتفاف حولها، من بينها تصميم الوحدات السكنية نفسها.
تتكون الأسمرات من «بلوكات» سكنية متجاورة، في كل منها نحو 10 عمارات سكنية، يزداد عددها أو يقل حسب تصميم كل مربع سكني. وفي كل عمارة ستة أدوار، جميعها بها ست شقق بنفس التصميم والمساحة، التي تبلغ 62 مترًا مربعًا.
تتكون كل شقة من غرفتَي نوم، وصالة صغيرة ومطبخ وحمام. وتبدو كل وحدة سكنية كأنها مُعدّة لأسرة مكونة من أربعة أفراد فحسب. تضم إحدى الغرف فراشًا كبيرًا، وبالأخرى سريران صغيران. والصالة بها أربعة مقاعد للسفرة، و«الأنتريه» مكوّن من كنبة صغيرة تتسع لفردين بالإضافة إلى مقعدين. كل شيء مُعد لأسرة نموذجية من أب وأم وطفلين، بغض النظر عن عدم تطابق ذلك مع حالة معظم الأُسر المنتقلة إلى «الأسمرات».
تختلف الطريقة السابقة مع أسلوب بناء السكان لبيوتهم في المناطق التي أتوا منها. فمعظم من تحدث معهم «مدى مصر»، سواء من منشأة ناصر أو الدويقة أو مثلث ماسبيرو، أسسوا منازلهم وفقًا لاحتياجاتهم. يمتلك الأهالي في تلك المناطق الأرض التي يبنون عليها منازلهم بطريقة أو بأخرى، فدائمًا ما تتهم الدولة سُكّان المناطق غير المُخططة بأنهم متعدون على أراضي الدولة، بينما يقول الأهالي إن أوضاعهم مُوفقة قانونيًا. في النهاية، يستحوذ الأهالي على الأرض بطريقة أو بأخرى ويشرعون على مدار سنوات في بناء البيت الذي تزداد طوابقه مع زيادة عدد أفراد الأسرة.
كانت الحاجة نجاة تعيش في غرفة مستقلة في بيتها الذي امتلكته بمنشأة ناصر، بينما يعيش كل من أبنائها الأربعة المتزوجين في نفس البيت في شقق منفصلة. وعندما رفضت لجنة الحصر المُشكّلة من الحي أن تخصص لها شقة منفصلة، كما حدث مع أبنائها، اضطرت إلى الانتقال مع ابنتها في الشقة التي استلمتها بـ «الأسمرات».
الابنة متزوجة ولديها طفلان، لذلك تضطر نجاة إلى النوم على كنبة نقلتها معها سرًا ووضعتها في الصالة الصغيرة. لا يُسمح للمنتقلين إلى المدينة أن يحملوا «عفشهم» معهم، فشقق «الأسمرات» مفروشة بالفعل، بفرش موحّد ومتماثل. غير أن بعض الأُسر تمكنت من إدخال بعض الأمتعة معهم إما سرًا أو عن طريق التفاوض مع موظفي الحي. هكذا تمكنت نجاة من إدخال الكنبة والثلاجة سرًا أسفل أكوام الملابس التي نقلوها في سيارة نصف نقل. تسخر نجاة من ثلاجة المصانع الحربية الموجودة في الشقة وتطلق عليها «فطوطة»، بسبب صغر حجمها.
يعيش معظم أهالي مثلث ماسبيرو ومنشأة ناصر في منازل ذات طابع عائلي، تضم هذه المنازل جيلين أو ثلاثة من نفس العائلة. تقول زينب إن بيت أسرتها في مثلث ماسبيرو كان مكونًا من 12 غرفة على ثلاثة طوابق، بعضها غرف مستقلة والأُخرى ضمن شقق منفصلة. غير أن الكثير من البيوت بها حمامات ومطابخ مشتركة بين أفراد العائلة الواحدة.
يختلف النظام السابق عما هو مُتبع في «الأسمرات»، حيث يتمّ تقسيم العائلة إلى أُسر، تحصل كل منها على وحدة سكنية مُستقلة دون فضاء مشترك بينها. تصف زينب حالة البيت في مثلث ماسبيرو بأن «باب الشقة ما بيتقفلش، باب الأوضة ما بيتقفلش، والناس بتسأل على بعضها بالطريقة دي». لا يسمح التصميم الجديد بنفس النمط من التواصل الاجتماعي، بسبب غياب فضاء عام مشترك يُمَكِّن الأفراد من عائلة واحدة أو عدة عائلات بالتواصل.
في الصيف، تخرج الكثير من الأُسر في المساء إلى الممرات الداخلية بين العمارات السكنية، حيث يجلسون على الأرصفة، أو على الطريق الرئيسي. بينما قام بعض الأفراد بإزالة أجزاء من السور الحديدي المحيط بالحديقة وملعب الكرة المُغلقين ليتمكن الأطفال من دخولهما. وقد حوّل بعض الأطفال شبكة المرمى إلى أرجوحة للعب بها. فيما تُمارَس نفس الأنشطة السابقة في الشتاء نهارًا، قبل حلول الظلام والبرد.
تثير السلوكيات السابقة مخاوف بعض سُكّان «الأسمرات» من إعادة إنتاج ما وصفوه بـ «العشوائية التي عاشوها في المناطق التي انتقلوا منها»، ويطالب بعضهم «بتطوير المواطن قبل تطوير المسكن».
يقول بكر، أحد سكان المدينة، والموظف بإحدى الصحف المملوكة للدولة: «أنت بتحاول ترتقي بالناس، بتجيبهم في مكان أحسن إلي حد ما. يبقي المفروض أعمل توعية لهم الأول، وده شيء أنا مش شايفه هنا. وفيه حاجة تانية، يجب أن يتم تطبيق القانون بصرامة وحزم. ويجب أن يكون هناك تأهيل نفسي للأشخاص لكيفية التعامل مع مكان محترم وفيه رُقي إلى حد ما. المفروض إن ده مكاني، فالمفروض أبقي قائم عليه بما يُرضي الله، ما أوسخوش وما أكسروش».
أكثر ما يشتكي منه بكر هو الضوضاء التي يصدرها الأطفال أثناء لعبهم في الشارع، والمشاجرات وتبادل السباب من وقت لآخر، فضلًا عن تحطيم الأسوار المحيطة بالحديقة وملعب الكرة. يشاركه الشيخ سيد نفس الانزعاج، مضيفًا أسباب أُخرى مثل رفضه لجلوس الأُسر في الشارع حتى وقت متأخر.
يبدو خطاب الاثنين متأثرًا بفكرة المواطن والسكن النموذجي، ويشاركهم بعض ممَن تحدث معهم «مدى مصر» رؤيتهم تجاه «الأسمرات» أنها «حي راقي» و«سكن متحضرّ»، يحتاج إلى تغيير في سلوكيات المواطنين، رغم كل ما يرونه من تحفظات على تصميم المكان وسلبياته. بينما يصف إبراهيم، الميكانيكي، المدينة بأنها «سجن كبير، أو حديقة حيوانات» مشيرًا إلى الأسوار التي تحيط بها، ومشيرًا بدرجة أوضح إلى إحساسه بالضيق تجاه التنظيم المُعد سلفًا والمطلوب منه اتباعه.
أكثر ما يُزعج إبراهيم، هو إحساسه بأن استثمار عائلته طوال عقود في بناء وتطوير بيتهم في منشأة ناصر قد ذهب دون تعويض مُكافئ. يقول: «بقى زينا زي الساكن (المُستأجر)، شقانا راح في التراب». يشاركه آخرون نفس الإحساس. يحكي عيد أنه بعد صدور قرار إزالة منزله في الدويقة، ظل لمدة ثلاثة أيام يبيت في المسجد كي لا يعود إلى المنزل ويشاهد عملية هدمه بعدما أنفق على بنائه نحو 200 ألف جنيه طوال عقود.
تنقل محافظة القاهرة سكان المناطق الخطرة من منشأة ناصر والدويقة مقابل عقود حق انتفاع في «الأسمرات» تنتهي بعد وفاة العائل، بينما كان إبراهيم، مثل معظم العائلات، يمتلك منزله في منشأة ناصر. ورغم انتقال الأُسر خلال العام الماضي إلا أنهم لم يتسلموا نسخًا من العقود التي وقعّوها وقت استلام الوحدات السكنية البديلة. تكرر الأمر نفسه مع الأُسر التي انتقلت من مثلث ماسبيرو، والتي وقّعت عقود ملكية، غير أنهم لم يتسلموا نُسخًا منها أيضًا.
عند الخروج من «الأسمرات» ليلًا، تبدو المسافة بينها وبين باقي أحياء القاهرة أبعد منها نهارًا. لا يتخذ أتوبيس النقل العام المتجه إلى وسط المدينة طريقًا مباشرًا، بل يدور في مسار مُتعرّج حتى يصل إلى محطته الأخيرة، فتبدو الأسمرات مع تلك الرحلة الطويلة أكثر عُزلة وغرابة.